لمفهوم ( الديمقراطية ) جاذبية خاصة ، جعلته يحظى بقدر كبير من الاهتمام الذي لم تحظى به المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى ، فكان الشغل الشاغل للفكر السياسي الإنساني منذ القدم وحتى العصر الحديث ، وتناوله العديد من العلماء والمفكرين بالبحث والدراسة ، محاولين استقصاء معانيه ومدلولاته العلمية ، وبذلك فقد توفر على كم هائل من التراث الفكري الذي حمل إلينا آراء وأفكار متعددة ومتنوعة ، ناتجة إما عن تجارب مجتمعات إنسانية في مجال الحكم وممارسة السلطة ، وإما عن جهود فكرية علمية لمفكرين وعلماء تصدوا لهذا الموضوع المهم وحاولوا سبر أغواره ، إلا أننا نلاحظ ، رغم ذلك ، عدم وجود اتفاق حول المفهوم الحقيقي لمصطلح الديمقراطية ، وكذلك حول الممارسة الفعلية لهذا المبدأ السياسي كفعل اجتماعي يؤدي وظيفة في إطار النظام السياسي .
إن المشكل الأساسي الذي واجه ويواجه المجتمعات البشرية منذ القدم وحتى الوقت الراهن ، هو الصراع على السلطة ، فالوصول إلى الحكم هو هدف مختلف القوى والتيارات في المجتمعات البشرية ، وقد يأخذ ذلك الصراع أشكالاً مختلفة ، تتدرج من الصراع السلمي ، إلى العصيان المدني ، أو الصراع المسلح ، وبذلك فإن الأقوى هو الذي يصل إلى الحكم ، سواء كان فرداً أو حزباً أو طائفة أو قبيلة ، والناتج هو تكوين نظام سياسي ما يلبث أن يدعي أنه نظام ديمقراطي يضحي من أجل الشعب ، في الوقت الذي يكون فيه الشعب هو الخاسر الأكبر ، والدليل الأكيد على ذلك هو استمرار الصراع بين الحكام والمحكومين بمختلف الأشكال التي أشرنا إليها . أما المشكل الأخطر الآن في إطار تطبيق الديمقراطية ، خاصة وان العالم الآن على أعتاب القرية الكونية الواحدة في ظل العولمة وما طرحته من مفاهيم جديدة رسمها من يمتلكون القوة وأعطوها أبعادا عالمية بغية تطبيق النموذج الغربي ، ويتمثل ذلك في تكييف أمريكا والغرب بصفة عامة لمفهوم الديمقراطية بالطريقة التي تؤدي إلى تبعية كل نظام حكم يطبق ذلك لهم ، لهذا نجدهم يطرحون موضوعا جديدا هو ( الإصلاح الديمقراطي ) ، وتحت ضغوط القوة وليس التوجه الإيديولوجي أو الاقتناع الفكري أو ما تقتضيه عناصر تكوين نظام الحكم ، نجد أن كل الأنظمة السياسية في العالم التي لا تتلاءم وتوجهات أمريكا والغرب تقع تحت طائلة هذا الطرح ، فتصبح تلك النظم ، حتى وان كانت ديمقراطية ، تحتاج إلى إصلاح ديمقراطي . يقتضي الأمر هنا المرور ولو بعجالة على الجذور التاريخية الفكرية للمفهوم العام لمصطلح ديمقراطية ، كي نعرف كيفية تكوّنه ومدلولاته ، ومن ثم نخلص إلى مفهوم الإصلاح الديمقراطي الذي برز في ظل العولمة وتأثيراته على الممارسة الفعلية للديمقراطية .
تشير الكتابات إلى أن مصطلح ( الديمقراطية ) إغريقي الأصل ، وهو مكون من مقطعين هما :(Demos) ومعناها الشعب ، (Krats) ومعناها السلطة ، وبذلك فإن الديمقراطية تعني حكم الشعب أو سلطة الشعب ، ويؤكد هذا على أن فكرة الديمقراطية هي فكرة قديمة ، عرفها الفلاسفة منذ القدم ، فقد أشار إفلاطون إلى أن مصدر السيادة هو الإرادة المتحدة للمدينة ، وقد ظهر النظام الديمقراطي في المدن الإغريقية القديمة ، خاصة مدينة ( أثينا ) ، وقد لاحظ أرسطو في هذه المدينة ، أن أعضاء ( الجمعية العامة للشعب ) التي كانت بيدها السلطة الفعلية ، يلتقون حول واحد منهم ، وكان لا يحق إلا للرجال الأحرار حضور جلسات الجمعية العامة (1) ، ويعني ذلك أنه ليس من حق العبيد والأجانب والمرأة ، حضور جلسات الجمعية العامة ، وعلى الرغم من أن ذلك يعد قصور منهجي في تطبيق فكرة الديمقراطية ، حسب مقاييس العصر الحاضر ، إلا أن الجهد الإغريقي في هذا المجال يعد رائداً للفكر الديمقراطي ، رغم أن البعض يعده نظاماً أرستقراطيا في حقيقته لإسناده السلطة لطبقة الأحرار فقط . وتشير المعاجم إلى أن الديمقراطية نظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد وكرامة الشخصية الإنسانية ، ويقوم على أساس مشاركة أعضاء الجماعة في إدارة شئونها ، والديمقراطية السياسية هي أن يحكم الناس أنفسهم على أساس من الحرية والمساواة ، لا تمييز بين الأفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة ، كما يشير الفقه الدستوري إلى أن معالم المبدأ الديمقراطي ، لم تتضح إلا بعد أن اتخذ بعض الكتّاب منه سلاحاً ضد الملكية المطلقة بغية تقييدها والحد من سلطانها ، وبغية هدم النظريات الثيوقراطية التي كان يتذرع بها الملوك آنذاك في تشييد سلطانهم ، على أن فكرة الديمقراطية لم يقدّر لها أن تكون مبدءاً وضعياً للحكم إلا بفضل الثورة الفرنسية ، التي هيأت لها المناخ المناسب للتطبيق بعد أن كانت مبدءاً نظرياً بحتاً في عقول المفكرين وفي مؤلفاتهم ، فقد حرص رجال الثورة الفرنسية على النص في إعلان الحقوق الصادر عام 1789 ، على أن ( الأمة هي مصدر السلطات ، بحيث لا يجوز لفرد أو لهيئة ممارسة السلطة إلا على اعتبار أنها صادرة منها ، وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة للأمة )، وإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب لنفسه أو إسناد السلطة إلى الشعب ، فإن جمهور الفقه متفق على أن الأخذ بالديمقراطية ليس غاية في حد ذاتها ، بل وسيلة لتحقيق غاية وهي الحرية والمساواة السياسية (2) . لقد أصبح الحكم الديمقراطي هو النظام السائد في أغلبية الدول الحديثة ، إلا أنه اتخذ صوراً مختلفة ، فإذا كان الحكم الديمقراطي يجعل من الشعب مصدر السلطة وصاحب السيادة ، فإن الشعب قد يمارس السلطة بنفسه فيسمّى ذلك نظام الديمقراطية المباشرة ، وقد يختار الشعب لممارسة السلطة نواباً عنه يمارسونها باسمه ، وتسمّى هذه الصورة من صور الحكم بالديمقراطية النيابية ، وقد يقوم نظام آخر خليط من النظامين السابقين ، فتكون هناك هيئة نيابية منتخبة من الشعب تتولي السلطة باسمه ، مع الرجوع إليه في بعض الأمور الهامة ، وبذلك فإن نظام الحكم الديمقراطي يتخذ صوراً تختلف باختلاف كيفية اشتراك الشعب في السلطة ، فإذا كان الشعب بأكمله يمارس السلطة ، والمقصود بالشعب هنا ، الشعب بمدلوله السياسي ، لا بمدلوله الاجتماعي ، أي من لهم حق التمتع بالحقوق السياسية ، فإن هذه الصورة تسمّى الديمقراطية المباشرة ، التي يمارسها الشعب عن طريق مؤتمرات شعبية تقرر ، ولجان شعبية تنفّذ ، وأجهزة شعبية تراقب هذه العملية بمجملها ، وإذا كان اشتراك الشعب في الحكم عن طريق نواب عنه ، فتلك الصورة هي التي تسمّى الديمقراطية غير المباشرة ، أما الديمقراطية شبه المباشرة فهي التي تدمج الحالتين السابقتين . إذن فإن وصف أو تصنيف نوع الحكم ، من حيث أنه ديمقراطي أو أوليجاركي أو تسلطي أو استبدادي ، وما إلى ذلك من مسميات ، يتوقف على حجم ودرجة مشاركة المواطنين فيه ، حيث أن المعنى التقليدي للديمقراطية يتمحور حول الأغلبية ، ومن هنا يرى البعض أن النظام الأكثر شيوعاً وملائمة بالنسبة للمجتمعات الكبيرة العدد أو الحجم ، فهو الديمقراطية النيابية ، التي ينتخب فيها المواطنون ممثليهم ، أو نواباً عنهم ، يقومون بتشريع وسن قوانين المجتمع ، في حين أن الديمقراطية المباشرة في الفكر الجماهيري تعني سلطة الشعب ، أي سلطة كل الناس دون نيابة أو تمثيل ( فلا نيابة عن الشعب ، والتمثيل تدجيل ) (3). ويقول الدكتور محمد عبد المعز نصر : الديمقراطية ليست مجرد شكل من أشكال الحكم ، فهي ليست أساسا شكلاً من أشكال الحكم ، فالحكم الديمقراطي يعني دولة ديمقراطية ، ولكن الدولة الديمقراطية لا تعني بالضرورة حكومة ديمقراطية ، فالدولة الديمقراطية تتسق مع أي نوع من الحكومات – ديمقراطية ، أوتوقراطية ، ملكية – وقد تضع السلطة العليا في أيد دكتاتورية كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية من الناحية الواقعية في أوقات الأزمات فيما يتصل برئيس جمهوريتها ، وكما يقول " هيرنشو " إن كل ما تعنيه كلمة الديمقراطية ، هو أن المجتمع ككل يملك سلطة السيادة ويحتفظ بالسيطرة النهائية على الأمور العامة ، فالديمقراطية كشكل من أشكال الدول هي مجرد طريقة لتعيين الحكومة والإشراف عليها وعزلها (4). عادة ما يتناول دستور الدولة – أية دولة – في ديباجته أو في مواده الأولى ، بأن الدولة ديمقراطية أو دستورية ، وبالتأكيد فإن الإشارة إلى ذلك من خلال الدستور لا تكفى بأن تكون الدولة ديمقراطية ، أو أن نظام الحكم فيها هو نظام ديمقراطي ، فالأساس في تحديد ذلك هو الممارسة الفعلية ، والأسلوب المطبّق في ممارسة السلطة هو الذي يحدد الخط الذي تسير عليه الدولة ، فإذا كان النظام يتيح بشكل واضح المجال للشعب لممارسة السلطة ، أطلقت عليه صفة الديمقراطية التي هي أصلا تعني ، كما أشرنا، حكم الشعب أو سلطة الشعب . إن تناول مسألة الديمقراطية من منظور تقليدي ، لا يزيدها إلا ضبابية وتداخل في المعاني ، والبعد بها أكثر عن المدلول الأساسي الذي دعت إليه الحضارة الإغريقية القديمة ، فإذا ما وجهنا سؤالاً محدداً لكل أنظمة الحكم السياسية بمختلف تسمياتها – ملكية ، جمهورية ، إمارة ، ...الخ – وهو ، كيف تقيّمون نظام الحكم عندكم ؟، ستكون الإجابة ، رغم الاختلاف في البناء السياسي لتلك الأنظمة ، بأنه نظام ديمقراطي، فهنا تبتعد الديمقراطية عن مدلولها الحقيقي ، لتكون أسلوب حكم يكفل مصالح من هم في إطار النظام السياسي ، وبذلك يختلف أسلوب ممارسة الديمقراطية من نظام لآخر ، في الوقت الذي يؤكد الواقع السياسي والاجتماعي بأن ( ليس للديمقراطية إلا أسلوب واحد ونظرية واحدة ... وما تباين واختلاف الأنظمة التي تدعي الديمقراطية إلا دليل على أنها ليست ديمقراطية .... ليس لسلطة الشعب إلا وجه واحد ، ولا يمكن تحقيق السلطة الشعبية إلا بكيفية واحدة ... وهي المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية )(5) ، وبذلك جاءت النظرية الجماهيرية بحل مشكلة كبر حجم المجتمعات الذي تدعيه النظم السياسية التقليدية ، حيث أن تقسيم المجتمع إلى مؤتمرات شعبية وإلى كومونات يجعل من اليسير تواجد كل المستهدفين قانونيا رجالاً ونساء يمارسون الديمقراطية المباشرة بكل يسر . فعندما كانت دولة المدينة في العهد الإغريقي ، كانت الديمقراطية المباشرة تعني تجميع كل الرجال الأحرار بالدولة في مكان عام كي يناقشون كل ما يتعلق بأمورهم ، إلا أن الأمر اختلف بعد عصر النهضة في أوربا وقيام الدولة الحديثة ، التي تميزت بالعدد الهائل للسكان ، ما دعى المفكرين إلى الدعوة أولاً لإقامة النظم الديمقراطية في أوروبا ، خاصة بعد عصور الظلام التي مرت بها والناجمة عن قيام الكنيسة بتولي مسؤولية الحكم ، فكان الحكام في ظل النظام الثيولوجي القائم حينها ، هم ظل الله في الأرض ، بعد ذلك كان هَم العلماء والمفكرين هو كيفية ممارسة الشعب للسلطة ، وحيث أنه حسب وجهة نظرهم ، لا يمكن جمع الناس في مكان واحد ، فإن الأصلح هو أن يختار الشعب من يمثله وينوب عنه في ممارسة السلطة ، فكان ذلك سمة مميزة للعصر الحديث الذي تم فيه تأويل مصطلح الديمقراطية ، بحيث صارت الديمقراطية تعني أن الشعب هو مصدر السلطة ، لكنه لا يمارسها مباشرة بالضرورة ، فيستطيع أن يوكلها إلى مجموعة من أفراده ليتولوا ممارستها نيابة عنه ، فأصبح بذلك المعنى المقصود غالباً بالنظام الديمقراطي هو النظام النيابي (6)، إلا أن مساوي هذا النظام بدأت تبرز، ومن أهمها أن النائب بعد فوزه في الانتخابات سرعان ما ينفصل عن قاعدته الشعبية ، ليمثل مصالحه الخاصة التي لا تتعارض مع مصلحة النظام السياسي القائم ، وحتى وإن كان النائب ذو ضمير حي ، فإنه لا يستطيع بأي حال أن يعبر عن كل احتياجات أفراد الشعب التي لا يعبر عنها سواهم ، وبذلك فإن النظرية العالمية الثالثة استلهمت الفكر الإنساني ومعاناته ، لتقدم الحل النهائي لمشكلة الديمقراطية ، حيث يجب أن يمارس الشعب السلطة مباشرة ، دون نيابة ودون وسيط ، وذلك عن طريق مؤتمراته الشعبية ولجانه الشعبية ، وما يترتب عن ذلك من بناء سياسي .
إذن فإن مقولة الإصلاح الديمقراطي أصبحت في هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كلمة حق يراد بها باطل ، مثلها في ذلك مثل مقولة الشرق الأوسط الكبير ـ والتي نرى بأنها ستعدّل إلى مقولة أخرى وهي الشرق الأوسط الجديد بناء على التوجهات التي جاءت على لسان وزيرة خارجية أمريكا ( كونداليزا رايس ) في مداخلاتها بخصوص عدوان الكيان الصهيوني على لبنان ـ حيث أن كل المتتبعين لتطورات الأحداث السياسية يعرفون جيداً أن الشعوب جميعها تريد إصلاحاً ديمقراطياً داخل دولها وأنظمة الحكم فيها ، لتمارس حقوقها الطبيعية في السيادة والسلطة ، إلا أن ذلك الذي تريده ليس على الطريقة الأمريكية ، حيث إن تفسير تلك الشعوب للإصلاح الديمقراطي الذي تريده أمريكا والغرب بأنه لا يعدو كونه مزيداً من خنوع وتبعية أنظمة الحكم لهم . إن الديمقراطية الحقيقية هي أن يمارس كل الشعب السلطة والسيادة ، وأن يسيطر بشكل كلي على ثرواته ويمتلكها بطريقة تجعل كل أفراد الشعب يستفيدون منها بشكل متساو ، وبقدر الجهد الحقيقي لكل واحد منهم ، كما أن مفهوم الديمقراطية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهومي الحرية والعدالة ، فلا ديمقراطية لأي شعب يكون مكبّل بالقيود محروم من حريته وما كفلته له الشرائع السماوية والقوانين الوضعية من حقوق للإنسان يجب أن يتمتع بها دون تدخل من أي طرف وبأية حجة ، كما أن الديمقراطية تقترن بالعدالة في كل شيء ، فلا تمييز بين فرد وآخر داخل أي مجتمع من المجتمعات ، إلا بقدر ما يقدمه ذلك الفرد للآخرين ، حيث يقول علماء الاجتماع بأن كل فرد في المجتمع يساهم من خلال مكانته الاجتماعية ودوره الذي يقوم به بناء على تلك المكانة ، في تلبية وظيفة معينة يقوم بها خدمة للمجتمع . إن مفهوم الديمقراطية وإن اختلفت تطبيقاته ، فإن حدوده العامة واضحة لكل ذي بصيرة ، وتأخذ خطاً عاماً قوامه أن السلطة للشعب يمارسها بكل حرية ودون وصاية ودون رقابة ، والرقابة هنا لا يُقصد بها ما هو موجّه لمراقبة السلوك البشري الذي قد يسئ للديمقراطية وقد يقوّضها في بعض الأحيان من التصرفات المقصودة أو غير المقصودة ، وقد أجمع الفكر الإنساني السياسي على ذلك منذ الفكر الإغريقي القديم وقيام المجتمع الأثيني في القرن الرابع قبل الميلاد ، مروراً ببعض المحاولات الإنسانية خاصة عند قيام الدولة الإسلامية في القرن السادس ، ثم قيام المجتمع الأوربي الحديث إبان الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وصولا إلى الفكر الجماهيري وقيام سلطة الشعب. وإذا ما كان استلام الشعب للسلطة والثروة وكل متطلبات القوة هو التعبير الحقيقي على ممارسة الديمقراطية ، حيث إن الديمقراطية ليست فقط أسلوب حكم بقدر ما هي ممارسة سلوكية أيضاً ، فقد تأرجح مفهوم الديمقراطية وتفسيراته ما بين الديمقراطية التقليدية والديمقراطية المباشرة ، لذا فإننا نلاحظ بأن كل عالم أو مفكر أو مهتم بهذا الموضوع قد قام بمعالجته من الزاوية التي سلّط منها اهتمامه ، فمثلا نجد أن " هوارد زين " يعتقد أن معنى الديمقراطية لا يحتوي على مقاييس تتعلق بكيفية اتخاذ القرارات ، ولكن بالنتائج التي تصل إليها هذه القرارات ، أي بمعنى أخص نراه يقول :إن هذه النتائج لابد أن تصل إلى تحسين حال الفرد داخل المجتمع ، وبنوع من الاختلاف يذهب " سيدني هوك " إلى أن الديمقراطية سبيل وطريق لاتخاذ القرارات ، أما ما تقود إليه هذه القرارات كما يرى " زين " فان " هوك " يعتقد إنها ليست نقطة الاهتمام ، بل إن المحك الهام في رأيه هو ما إذا كان الشعب له الحق عن طريق الأغلبية في الاختيار ، أي اختيار الحياة التي يبتغيها (7).
إن ما يبرز في مخيلتنا عندما نذكر الإصلاح الديمقراطي هو وجود خلل معين في نظام الحكم جعله لا يعمل بشكل جيد مما يستدعي الإصلاح لمؤسسات الدولة بطريقة تكفل الحرية والعدل والمساواة لجماهير الشعب صاحبة المصلحة الحقيقية في الاستفادة من خيرات البلاد وممارسة السلطة والسيادة دون إنابة أو وساطة ، فكلما كان نظام الحكم عاجز عن تقديم هذه المنجزات للشعب فإن ذلك يعد مؤشراً دالاً على عجز ما ، إما في النظم أو الأدوات التي تعتمدها الدولة في ممارسة الحكم ، وأكد ذلك على ضرورة التدخل الإصلاحي الذي يعيد الأمور إلى واقعها الطبيعي . لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو : ما هو النموذج المثالي للديمقراطية الحقيقية الذي يمكن الركون إليه عندما نقوم بعملية الإصلاح ؟ ، وبكل سرعة تبرز لنا حقيقة أصبحت في ظل العولمة واقعاً ملموساً وهي إن الدول القوية التي فرضت العولمة هي نفسها التي فرضت النظام العالمي الجديد وهي نفسها التي تعمل على فرض النموذج الغربي في الديمقراطية ، ذلك النموذج التقليدي للديمقراطية الليبرالية الذي تراه أفضل نموذج يمكن أن يطبقه العالم ، وهي من جانب آخر لا تطبق في إطار الجانب الإصلاحي الذي تدعيه إلا ما يتلاءم مردوده مع مصالحها في البلد المستهدف ، حيث يعد كل نظام حكم لا يسير حسب مخطط أمريكا ومن معها من الغرب ، نظام يحتاج إلى إصلاح ديمقراطي ، أي أن يتعامل نظام أية دولة بطريقة تكفل التبعية التامة بشكل غير منظور من قبل ذلك النظام لما تستوجبه مصالح الدول الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية . وهنا يجب الإشارة إلى حقيقة وهي أن الإصلاح الديمقراطي من وجهة النظر الغربية بات متعلق إلى حد كبير بشخصية الحاكم ، فإذا كان رأس النظام السياسي في دولة ما ـ فردا كان أو مجموعة أفراد ـ خاضعا بشكل يلبي ما يحتاجه الغرب وأمريكا ، فإن ذلك يجنبه متاعب الإصلاح ، وإذا كان ليس كذلك فإن الدول الكبرى القوية اقتصادياً وتكنولوجياً وأيضاً عسكرياً تفرض عليه الإصلاح الديمقراطي بالمقاييس التي ترسمها له ، بغض النظر عما إذا كان النظام السياسي ديمقراطياً أم لا في كلتا الحالتين . ما يثير الاستغراب هنا هو ادعاء الغرب بأن ما يمارسونه من ديمقراطية نيابية هو نموذج مثالي يحتذى به ، رغم أن بعض مفكريهم أشار منذ قرون إلى أن ما يمارسونه هو تزييف للديمقراطية ، حيث يجب أن تمارس الديمقراطية بشكل مباشر وهو ما يسمى بالديمقراطية المباشرة ، عوضا عن الديمقراطية النيابية الشائعة في الغرب والكثير من دول العالم ، لقد كان العالم " جان جاك روسو " ( 1712 – 1778 ) متحمساً حماساً شديداً للديمقراطية المباشرة باعتبارها الصورة الوحيدة للديمقراطية التي تحقق سيادة الشعب على أكمل وجه ، والتي عن طريقها يعبّر الشعب عن إرادته العامة الغير قابلة للتجزئة أو التقسيم أو التفويض ، وإن أية صورة أخرى لا تمثل الديمقراطية ولا تحقق النظام الديمقراطي ، ومن هذا المنطلق هاجم " روسو " الديمقراطية النيابية ، وحمل على حكومة انجلترا التي تقوم على أساسها بقوله أن ( نواب الشعب ليسوا ولا يمكن أن يكونوا ممثلين له ، فهم مجرد مندوبين عنه ، وليس بمقدورهم أن يبتوا نهائيا في أي شيء ، .. يظن الشعب الإنجليزي انه حر ، ولكنه واهم في ظنه ، فهو ليس حرا إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان ، وبعد انتهاء الانتخابات يعود الشعب عبداً لا حول له ولا قوة ، وقد جنى بذلك نتيجة سوء استعماله لحريته في اللحظات التي كانت فيها ملك يمينه ) (8) . بالنظر إلى التدخل الغربي وخصوصاً التدخل الأمريكي في الشئون الداخلية للدول الأخرى ، فإن مصطلح الإصلاح الديمقراطي أصبح سيء الصيت رغم ما يحمله هذا المصطلح ظاهريا من معان سامية تهدف للوصول إليها حركات الشعوب التي تريد الحرية وتسعى للخلاص بكافة الطرق ، فإذا نظرنا إلى الدول المتخلفة اقتصادياً وتكنولوجياً تلك التي كان يشار إليها قبل ظهور العولمة بشكلها الحالي بالدول النامية أو دول العالم الثالث ، فإننا نلاحظ ، رغم ظهور حركات التحرر واستقلال العديد من الدول في النصف الثاني من القرن العشرين من استعمار الدول الكبرى بشكله العسكري التقليدي ، نلاحظ أن النظم في تلك الدول رغم تنوعها ، ما تزال تحتفظ بما ذهب إليه العالم " فلفريدو باريتو " منذ بداية القرن العشرين في نظريته الاجتماعية حول ( دورة الصفوة ) ، وبذلك نشير إلى أن المجتمعات البشرية في كل هذه الدول المشار إليها تنقسم إلى قسمين الصفوة واللاصفوة ، أو النخبة واللانخبة ، وتمثل الصفوة الطبقة أو الفئة أو الجماعة الحاكمة بشكل مباشر أو غير مباشر ، وعادة ما تكون قليلة العدد بالنسبة لمجموع الشعب ، أما البقية فهم أفراد الشعب الذين لا حول لهم ولا قوة ، وهم يمثلون الأغلبية المقهورة. ولقد استغلت الدول الكبرى هذه الأوتار لتعزف عليها ، فهي إما أنها تألب الشعوب على الحكام وإما أنها تقوم بتخويف الحكام من الشعوب ، وفي كلتا الحالتين تظهر للجميع بأنها تحاول حمايتهم ، وهنا تبرز آلية الإصلاح الديمقراطي لاستخدامها كمنقذ ، وتستمر تلك الدول القوية على ذلك بشكل يحمي مصالحها التي رسمتها وحددتها مسبقا ، إلا أن الجميع فهموا إلى حد ما قواعد وأركان هذه اللعبة وأصبحوا لا يثقون في هذا الإصلاح ، بل أن المفهوم نفسه أصبح إلى حد كبير غير مقبول لديهم . إن الإصلاح الديمقراطي الحقيقي شيء مطلوب ومرغوب ، والشعوب الآن وفي هذا العصر بالذات ، عصر التقدم العلمي والتطور التكنولوجي ، عصر المعلوماتية والاتصالات ، قد أصبح أكثر إطلاعاً وأوسع أفقاً ، وعلى علم بكل ما يجري في العالم من أحداث ، وبالتالي أكثر معرفة بواجباته وأكثر مطالبة بحقوقه ، لذلك فإنه لا يقبل بأقل من أن يأخذ حقوقه كاملة غير منقوصة ، في ممارسة السلطة ، وأن تكون بيده كل مقدرات القوة ، فالديمقراطية بالنسبة للشعوب الآن لم تعد فقط أسلوب حكم ، بل ممارسة سلوكية وطريقة حياة ، لذلك فإننا نلاحظ اليوم على امتداد الساحة العالمية كل أنواع الرفض السياسي ، من مظاهرات واعتصامات وعصيان مدني ، ما يدل على أن الشعوب تريد الإصلاح الديمقراطي الحقيقي الذي هو بكل بساطة نابع منها ومن احتياجاتها الحقيقية وليس مفروضاً من أي جهة خارجية ، لأن الإصلاح في هذه الحالة الأخيرة لا يخدم مصالح الشعوب بقدر ما يخدم مصالح الجهة التي فرضته .
1. د. أبو اليزيد علي المتيت ، النظم السياسية والحريات العامة ، المكتب الجامعي الحديث ، الإسكندرية ، الطبعة الرابعة ، 1984 ، ص 104 . 2. د. عبدالعزيز إبراهيم شيحا، مبادئ الأنظمة السياسية ، الدار الجامعية للطباعة والنشر ، بيروت، ص 149 . 3. معمر القذافي ، الكتاب الأخضر ، منشورات المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر ، الطبعة 24 -1998 . 4. عامر رشيد مبيض ، موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية ، مصطلحات ومفاهيم ، سوريا 1999 ، ص734 . 5. معمر القذافي ، الكتاب الأخضر ، مرجع سابق . 6. د. محمد الفرجاني ، عولمة الديمقراطية ، أم ديمقراطية العولمة ، بحث منشور بمجلة دراسات، السنة الثالثة ، العدد التاسع ، 2002 ، ص 70 . 7. عامر رشيد مبيض ، مرجع سابق ،سوريا 1999 ، ص 733 . 8. د. عبدالغني بسيوني عبدالله ، النظم السياسية ، الطبعة الرابعة 2002 ، منشاة المعارف ، الإسكندرية ، ص207 . المراجع 1. د. أبو اليزيد علي المتيت ، النظم السياسية والحريات العامة ، المكتب الجامعي الحديث ، الإسكندرية ، الطبعة الرابعة ، 1984 . 2. عامر رشيد مبيض ، موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية ، مصطلحات ومفاهيم ، سوريا 1999 . 3. د. عبدالعزيز إبراهيم شيحا، مبادئ الأنظمة السياسية ، الدار الجامعية للطباعة والنشر ، بيروت . 4. د. عبدالغني بسيوني عبدالله ، النظم السياسية ، الطبعة الرابعة 2002 ، منشاة المعارف ، الاسكندرية . 5. د. محمد الفرجاني ، عولمة الديمقراطية ، أم ديمقراطية العولمة ، بحث منشور بمجلة دراسات، السنة الثالثة ، العدد التاسع ، 2002 . 6. معمر القذافي ، الكتاب الأخضر ، منشورات المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر ، الطبعة 24 -1998 .